lunes, 28 de julio de 2008

محمد شكري...وَلِيًّا! / مزوار الإدريسي



محمد شكري...وَلِيًّا!


مزوار الإدريسي



هل غادر محمد شكري طنجة حقا؟ طنجة التي كان يحلو له أن يُنْسَب إليها بالطَّنْجاوي؛ ضدا على النسبة العربية الطنجيِّ، وانتصارا لما درج عليه المغاربة أحيانا من إضافة” اوي“ إلى ما آخره” ة“، مثل سبتة التي يَنْسِبون إليها السبتاوي عوض السَّبتي. مثل هذا السؤال يجد مشروعيته في كثرة تداول اسم هذا المبدع الاستثنائي في كثير من اللقاءات والمسامرات التي تؤلِّف بيْن مثقفي المدينة منذ رحيله عنها، ولعل آخر استذكار لهذا المبدع المتميز هو ذلك اللقاء الأخير، الذي احتضنه فندق المنزه يوم 17 يوليوز، بتنظيم من معهد ثربانتس بطنجة، تحت عنوان” محمد شكري: الكاتب ومدينته“.


كانت صُوَرُ محمد شكري، خلال الندوة، تتحرَّك على شاشة خلفية منوِّعةً زاويةَ التجلي بين الفينة والأخرى، كأن صاحبها لم يغادر مدينته أبدا، محقِّقةً بذلك رؤيا الكاتب والصحافي حسن بيريش، في كتابه المخطوط المتضمن حوارات مع شكري، والمعنون” باق هنا في طنجة“.


الحقيقة أن غياب شكري أحسَّه من عاشره، أو حدث له أن جالسه في غياب الْعُواء، ذلك الصوتُ الذئبي الذي كان يروق لصاحب” الخبز الحافي“ أنْ يصدره في لحظات نشوته. لكنَّ الوفاء شيمة الأصدقاء الحقيقيين، إذ تكفَّلَ الكاتب المسرحي والصديق الحميم لشكري الزبير بن بوشتى بذلك في جلسة خاصة بـ”الضفدعLa rana “ أعْقبَتِ اللقاء.


لقد شارك في هذه الندوة المهمة كلٌّ من الروائي الفرانكوفوني الطاهر بنجلون، والروائي والمفكر الإسباني المقيم بمراكش خوان غويتيصولو، والشاعر الأصيلي المهدي أخريف؛ وأدارَها الفاعل الجمعوي رشيد التفرسيتي وقُدِّمَ فيها كتالوج أنيق عن الكاتب ومدينته من إنجاز الفنان الفتوغرافي رشيد الوطاسي، عُرِضتْ صُورُه في المعرض الذي افْتُتِحَ خصيصا، بعد انتهاء الندوة، بمعهد ثربانتس بطنجة، على بعد مائتي متر من مقر الندوة.


حضر اللقاء كثير من مثقفي المدينة، وهو شيء نادر، إذ عادتُهم في طنجة المرابطة في المقاهي، خصوصا في هذا الفصل، متعلِّلين بكسل الصيف وتآمُرِ ريح الشرقي على الأبصار وحتى الأفكار. كانت القاعة البهيجة المكيَّفة غاصة عن آخرها بالجنسيات المختلفة، مع غلبة طفيفة للأجانب، فعبَّرتْ بذلك عن خاصيَّة طنجة، المدينة الدولية متعددة الأعراق والألسن. واللقاء نفسُه طبعه التدخُّل بالعامية المغربية والعربية والفرنسية والإسبانية، وهو وجه آخر يؤكِّد هذا التنوع.


تميَّزتْ كلمة الطاهر بنجلون بسرده للوقائع التي اكتنفت ترجمته" للخبز الحافي"، حيث أشار إلى أن الناقد والروائي محمد برادة اقترح عليه، سنة 1978، أنْ يساعد في التعريف بمحمد شكري المغمور آنذاك، بأن يترجم له شيئا إلى الفرنسية، لأنه كان يعاني ضائقة مالية مستدامة، وأنه اتفق مع شكري على الشروع في العمل فورا، فكان يأتيه يوميًّا بخمس إلى ست صفحات، يعكف على ترجمتها في مقهى باريس، بحضور شكري، بمعنى أنَّ الكتاب في أصله العربي لم يكنْ موجودا بتاتا.


هذه الواقعة أيَّدها الشاعر والناقد عبد اللطيف شهبون الذي كان يجلس بجواري، في حين نفاها الشاعر المهدي أخريف في جلسة خاصة، بعد اللقاء، إذ أكد لي أنه قرأ أزيد من ستين صفحة من" الخبز الحافي" سنتيْن على الأقل قبل نشر السيرة الروائية بترجمة الطاهر، وهو أمرٌ كان قد أكَّد عليه صديق حميم لشكري هو الروائي محمد عز الدين التازي، في لقاء تأبيني حضرته.


هذا النقاش يُدخلُنا دوامة الأسبقية في الوجود، أهي للبيضة أم للدجاجة، ولا يسعف بتاتا في التقدَّم بالنقاش الأدبي، بل إنه يفتح الباب أمام تقولات وتضارب للآراء تترك الإبداع جانبا، وتعمل على إثارة الحزازات.


ويضيف الطاهر قائلا بأنه حمل النص إلى فرنسا، وقدَّمه إلى دار نشر شهيرة، ثم إنه ألحَّ على أن يُنْشر الكتاب مترْجَما، وعاد بالعمل مطبوعا وبقدر مالي هو خمسة آلاف فرنك فرنسي، قال شكري لمَّا تسلَّمها:” بدأتْ أربح مالا بالكتابة“. ويواصل الطاهر مذكِّرا بما قدَّمه لشكري من خدمات، التي لم تتوقفْ عند ترجمة” الخبز الحافي“ دون مقابل، بل تواصلتْ، فالمداخيل التي ظلَّ شكري يتقاضاها عن ترجمة هذا الأثر إلى اللغات المختلفة كانتْ في الواقع تنهض أساسا على النص المترجَم إلى الفرنسية من قِبَلِه، كما أنه ضمن له الحضور في البرنامج الأدبي التلفازي الشهير” أبوستروف Apostrophes “، الذي كان ينظِّمه برنارد بيفو.


ويؤكِّد الطاهر بأنَّ الذكاء الفطري لشكري كان حاسما في شهرته، إذ استغل البرنامج لتمرير صورة عنه فيها شيء كثير من سمات أستاذه جان جنيه، ولا أدلَّ على ذلك من أنه شرع يغط في نوم عميق اثناء برنامج تشاهده الملايين على الهواء مباشرة.


واختار الإسباني خوان غويتيصولو في تدخُّله اللطيف أنْ يصحِّح عنوانَ ” الخبز الحافي“ في ترجمتها إلى الإسبانية، حيث يلزم أن يكون المعادل” El pan a secas“ في حين أنها وُسِمتْ بـ” الخبز العاري El pan desnudo“، مما يلزم التنبيه إليه. ثم انصرف لإثارة نقطتين: الأولى مفادُها أنَّ محمد شكري اختار أن يكتب على غير مثال أسلوبي، أي أنه التفت إلى المراهنة على سرد بسيط أقرب إلى لغة التخاطب اليومي، بمعنى أنه ارتفع بالعامية قليلا، وفصَّحَها، حتى صيَّرها في متناول عموم المجتمع، وأنه في هذا الاختيار ينمُّ عن وعي حاد إزاء واقع الفصحى في العالم العربي، التي أصبحتْ- حسب رأي غويتيصولو- متحفية وبعيدة عن الاستعمال الوظيفي الذي درجتْ عليه كل لغات العالم. والثانية أنه ارتكز في سرده على المعيش اليومي تارِكا القضايا الكبرى جانبا، ومنصرفا إلى الحديث عمَّا يعيشه الناس في المجتمع، ويعرفونه، لكنهم لا يجرؤون على أن يواجهوا به ذواتهم كتابيا. وانسجاما مع هذا الوعي، حكىَ خوان غويتيصولو نكتة دالة مفادها أنه طرح ذات مرة سؤالا على شكري بصدد موقفه من الوطن وقضاياه، فكان ردَّ عليه الأخير بهذه العبارة” وطن، وطن، وطن... وطني أنا هو النيغريسكو Negresco“ أي الحانة التي كان لا يبرحها إلا للنوم.


واكتسب تدخُّل الشاعر المهدي أخريف- الذي تكرَّم الطاهر بنجلون بترجمته إلى الفرنسية ترجمةً تتبُّعيَّةً تعميما للفائدة- طرافةً وقيمة، لأنه اقتصر على ثلاث نقط مركَّزة، مهَّد لها بالتأكيد على الذكاء الحاد الذي كان عليه شكري، مما وقاه الأضرار التي قد يسببها له المجال الأدبي. النقطة الأولى: هي أن محمد شكري كان يعرف حدوده وإمكانياته، وأنه تصرَّف وفق قدراته التخييلية واللغوية والتيمية، بحيث تكلَّم بما في متناوله عمَّا في متناوله، ولم يغامر بالخوض في إشكالات أو تجارب لا قبل له بها، وأنَّ هذا النهج ميَّز آثاره بالجدَّة والجودة التي عرفناها لديه. النقطة الثانية: أن شكري كان يكتب بألم، والألم هنا تُقصد به المعاناة مع الكتابة، ذلك أن شكري كان شديد التعلُّق بالعربية، شغوفا بالتدقيق اللغوي، الشيء الذي جعله مقلَّا في الإنتاج إذا ما قورن بكُتَّاب آخرين، لكنَّه في المقابل كتبَ بعربية أنيقة، يصعبُ أن تجد لها شبيها في الأدب العربي، وهذا لا ينفي أنَّ كتابته طافحة بالألم في صورته النفسية نتيجة للحرمان الذي عاشه أثناء الطفولة، وللعزلة وسوء الفهم اللذين كابدهما كهْلا. النقطة الثالثة هي أنَّ كثيرين اعتبروا أن علاقة شكري بمدينة طنجة قامت على أساس التشويه، وأنهم اتهموه بالإساءة إلى سمعة المدينة، بل وعدم أحقِّيته في الكتابة والحديث عنها. مثل هذا الموقف- يقول المهدي- لا يختلف عن موقف إدوارد الخرَّاط من رباعية الإسكندرية للورانس داريل، حيث سعى إلى الاستخفاف بصاحب الرباعية، بناءً على عدم انتمائه للمدينة. ويعلِّق المهدي بأنَّ المشكل ليس في شكري، وإنما في الذين يقرأونه دون وعي نقدي، إذ يغيب عن هؤلاء أنَّ لكل طنجته، وأن لا علاقة أساسا بين طنجة المتخيَّلة في أعمال شكري وبين المدينة الواقعية.


الأكيد أن تدخلات المشاركين في الندوة فتحتْ شهية الجمهور للحوار والإضافة والاعتراض، حيث أشار أحدهم إلى أنَّ كُتَّاب طنجة هم بتَعَدد لغاتها، فإذا كان شكري كاتبها بالعربية، فإن كاتبها بالإنجليزية هو بول بولز صاحب” شاي في الصحراء“، وكاتبها بالإسبانية دون منازع هو آنْخِلْ بَاثْكِيثْ صاحب” الحياة الكلبية لخْوانِيطَا نَرْبُونِي“. واستدركَ على هذا الأخير متدخِّلٌ آخر نبَّه إلى أنَّ كاتب طنجة بالفرنسية هو الحاضر الطاهر بنجلون، حتَّى لا تكون المعاصرة حجابا. كما قدَّم آخرون تفسيرات وإضاءات بصدد منع”الخبز الحافي“.


المثيرُ للاستغراب في الندوة وخارجها هو هذا الإصرار لدى البعض على إلصاق صفة كاتب المدينة بشكري، وهو نعتٌ ما أظنُّ أديبا يقبل به. صحيح أنَّ لبعض المدن كتَّابا اقترنوا بها، ففرناندو بيسوا كاتب لشبونة، وكافكا كاتب براغ، وكفافيس كاتب الأسكندرية، إلخ... لكنَّ الصحيح أيضا هو أنَّ الإقران والاقتران الحقيقي لأيِّ كاتب ينبغي أن يكون بالكتابة في الأول وفي الأخير، لأن على الكاتب أنْ يبرهن على جدارته بالانتماء إلى هذه الجغرافيا العصية. فبقدر ما يكون إبداعُه مشحونا بفنية عالية وتجارب إنسانية عميقة، يكون يضمن لنفسه الجنسية الأدبية، ولعلَّ الحكمة التي تفوه بها شكري” وطن، وطن، وطن... وطني أنا هو النيغريسكو Negresco“ لدليل صادق على الوعي الأدبي المضاد لهذا التصور الاستهلاكي، ذلك أن حانة النيغريسكو لم تكن محلا لتعاطي الكأس، بل كانت فضاء لاستقبال الأصدقاء والضيوف، وللقراءة والكتابة، ونافذةً مشرَعة على الحياة.


إنَّ المتأمِّل في هذه الإطلاقات المجانية سيكتشف، لا محالة، سفَرَ التصوُّرات الشعبية الجماعية، واستقرارَها في تربة الكتابة دون وعي؛ فإذا كان كثيرون يؤمنون بالاعتقاد الشعبي في وجود أولياء الله الصالحين، الذين يحمون مُدُنا بعينها ويضمنونها، فإنه يبدو أنَّ كثيرين أيضا ينسخون هذا الاعتقاد، مع تحوير شكلي بالطبع، حين يحاولون إقناعنا بأنَّ طنجة- شأنها شأن مدن كثيرة في العالم العربي والإسلامي- ليس لها وليُّها الروحي” سيدي أبوعَرَّاقيَّة“ فحسب، وإنما لها وليُّها الأديبُ أيضا؛ إنه الشيخ” سيدي محمد شكري“، نفعنا الله بحَرْفه.


مزوار الإدريسي